
فاطمة الصدِّيقة
﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾
فاطمة الصدِّيقة
﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾[1].
الصّدق
إنّ الصدق من أشرف الخصال الكمالية وكفى بشرفه أنّ الله تعالى وصف نفسه به، فقال عزّ وجل:
﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾[2]
﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾[3].
وقد أكّد الإسلام أن الصدق معيار أساس في إيمان المسلم، فعن الإمام الصادق(عليه السلام):" لَا تَغْتَرُّوا بِصَلَاتِهِمْ ولَا بِصِيَامِهِمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ رُبَّمَا لَهِجَ بِالصَّلَاةِ والصَّوْمِ حَتَّى لَوْ تَرَكَه اسْتَوْحَشَ، ولَكِنِ اخْتَبِرُوهُمْ عِنْدَ صِدْقِ الْحَدِيثِ وأَدَاءِ الأَمَانَةِ" [4] .
وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: "الصِّدق رأس الإيمان"[5]، "الصِّدق أقوى دعائم الإيمان"[6].
الصدّيق
والصدق على مراتب:
1- الصدق القولي: ويكون بمطابقة الخبر الواقع.
مثلاً حينما يسأل أحدهم عن شخص، هل هو أمين ؟ وعن بضاعة، هل هي أصلية ؟
قد يجيب: نعم هو أمين، نعم البضاعة أصلية، وقد لا يكون واثقاً من إجابته. لكن حينما يكون الواقع أن الشخص أميناً وأن البضاعة أصلية، فإن ما صدر منه يُعدّ صدقاً قولياً.
2- الصدق الاعتقادي: ومورده حينما يعتقد الإنسان بحقيقة ما يقوله بأن يعتقد بينه وبين نفسه بأمانة من يسأل عنه، فيجيب بأنه أمين، وبكون البضاعة أصلية، فيجيب بذلك.
3- صدق الإرادة والعزم
ومورده أن يكون صادقاً في إرادته وعزمه فيما يخبر أنّه سيحقّقه، بأن يقول لك صاحب الصنعة بصدق ارادة: سأنجز لك العمل بعد أسبوع، أو بأن يقول المتديّن بصدق عزم: أنا جاهز لنصرة صاحب العصر والزمان.
وهذا الأمر يحتاج جهداً إضافياً من الإنسان، إذ يحتاج إلى تحرٍّ ومتابعة لنفسه حتى يكون صادقاً في إرداته وعزمه.
ورد عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله):" عليكم بالصِّدق؛ فإنّ الصدق يهدي إلى البرّ ، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة ، وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصّدق حتى يُكتب عند الله صدّيقاً"[7].
وإضافة إلى هذه المتابعة الذاتية وقبلها لا بدّ أن يكون دائم التوجّه إلى الله تعالى؛ لأنّ الأمور بيده تعالى، لا سيّما أنّه يتحدّث عن المستقبل. من هنا نفهم معنى قوله تعالى : ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا﴾[8].
فإذا تحقّقت في الإنسان هذه المراتب الثلاث:
- خبره مطابق للواقع
- يقينه كامل بما يخبر عنه
- فعله ملازم لقوله، إذ لا يقول شيئاً إلا وهو واثق من متابعته المنطلقة من التحرّي العمل والمدد الإلهي يكون صدّيقاً.
والصدّيق يكون صادقاً وصدِّيقاً في القضية التي يؤمن بها مهما كانت المواجهات صعبة وقاسية، من هنا ورد في الحديث النبويّ اختيار ثلاثة أولياء من غير الأنبياء(عليه السلام) واجهوا ظروفاً قاسية وصعبة تتزلزل فيها القلوب، لكنّهم صدقوا على قضيتهم، فعن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) "سُبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين، عليّ بن أبي طالب، وصاحب ياسين(حبيب النجار)، ومؤمن آل فرعون، فهم الصّدّيقون وعليّ أفضلهم[9].
وهذه القضية التي يكون بها الإنسان صدِّيقاً تعبّر عنها الآية الكريمة: ﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾[10].
ما معنى: آمنوا بالله ورسله ؟
هل معنى ذلك أن يصدّق الإنسان في قلبه بالله وجميع رسله ؟! إنّ جميع المسلمون يعتقدون بذلك.
فهل يعني ذلك أنهم جميعاً صدّيقون شهداء؟
الجواب
اللافت في الآية هو التعبير بالرسل وليس بالأنبياء جميعاً، فالأنبياء 124 ألف نبيّ والرسل 313 رسولاً،كما أنّ اللافت أنّ الله تعالى لم يقل "آمنوا بالله ورسوله" كغيرها من الآيات الكثيرة كقوله تعالى:
1- ﴿آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾[11].
2- ﴿ انَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾[12].
3-﴿ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِه﴾[13].
4-﴿ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ﴾[14].
5-﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه﴾[15].
6- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ...﴾[16].
إلى غيرها من الآيات القرآنية التي تتحدّث عن الإيمان بالله ورسوله، في حين أن آية الصدّيقين تتحدّث عن الإيمان بالله ورسله " وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾.
إنّه الإيمان بالمسار الإلهي الكامل الذي واكبه الرّسل برسالاتهم التي تنشد كمال الفرد والمجتمع، والتي تعبّر عن مواكبة المخطَّط الألهي لتكامل قافلة الوجود.
إنّها قضيّة تنطلق من الاعتقاد الكامل بحكمة بالله تعالى الذي خلق الإنسان لهدف هو كماله، وخلق المجتمع الإنساني لهدف هو كمال ذلك المجتمع الذي يريد الله تعالى أن يحقّقه من خلال الأفراد الكاملين فيه، فكما للفرد كمال، فإن للمجتمع كمالاً.
ويمكن مقاربة المخطّط الإلهي من خلال صفوة الرسل وهم أولو العزم الخمسة: نوح(عليه السلام) وابراهيم (عليه السلام) وموسى(عليه السلام) وعيسى (عليه السلام) ومحمد (صلى الله عليه وآله) الذين يمثّلّ كل منهم محطّة أساسية في المخطط الإلهي للمجتمع الإنساني.
- فمهمة النبيّ نوح(عليه السلام) لكمال المجتمع أن يصنع مجتمع الإيمان بالله تعالى، ونجح بهذا في حدود من صعد السفينة.
- ومهمة النبي ابراهيم(عليه السلام) لكمال المجتمع أن يطوّر مجتمع الإيمان ليكون مجتمع التوحيد، ونجح بهذا بعد أن نقل مجتمعه من الأرض إلى السماء الى الله الواحد تعالى.
- ومهمة النبي موسى(عليه السلام) لكمال المجتمع كانت أن يطوّر مجتمع الإيمان والتوحيد الذي كان يتمثّل ببني إسرائيل إلى مجتمع الشريعة فكانت التوراة والألواح، ونجح كليم الله موسى(عليه السلام) بذلك ليهيئ للخطوة اللاحقة والتكامل الأتمّ الذي هو صناعة الحكومة الإلهية، لكن بني اسرائيل رفضوا القتال، وبقوا في التيه.
- وأرسل الله تعالى نبيّه عيسى(عليه السلام) الذي صدّه اليهود عن تحقيق مشروعه الإلهي في الإصلاح والتطوير فرفعه الله تعالى إليه مجمّداً حركته ليكون الشريك في الخطوة اللاحقة في بناء الحكومة الإلهية الكبرى التي :
- أرسل الله لأجلها خاتم رسله محمد بن عبد الله(صلى الله عليه وآله) الذي بنى لُبنتها الأولى وأخبر أنّها ستتحقق على يد حفيد من أحفاده من ولد فاطمة(عليها السلام) معبّراً عن ذلك بقوله :" لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج قائمنا فيملأها عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما"[17]
إنه حديث عن الحكومة الإلهية بقيادة الإمام المهدي(عج) التي يشاركه فيها النبي عيسى(عليه السلام) في جماعة الصلاة، ومجتمع العالم تصل البشرية فيها إلى ذروتها الكمالية.
إنّ من يؤمن بهذا المشروع إيماناً ينعكس في سلوكه حتى لو أدّى ذلك إلى قتله ينطبق عليه قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ ولعلّ هذا المشروع هو الذي حدّث به جبرئيل(عليه السلام) السيدة مريم بعدما تمثّل لها بشراً سوياً ليجعلها مستعدة للتضحية الكبيرة من خلال العنوان الأكثر حساسية عند المرأة الشريفة، وهو عنوان الشرف، لعلّه حدّثها عن دور ولدها المسيح في شراكته للإمام المهدي(عج)، ليسلّيها بذلك رجل أن تقدم على تلك التضحية؛ ولأجل ذلك وصفها الله تعالى في كتابه العزيز بالصدّيقة ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾[18].
وهذا المشروع الإلهي والمخطّط الربّاني هو الذي كان حديثاً لجبرئيل(عليه السلام) مع السيدة الزهراء(عليها السلام) حينما نزل ليسلِّيها بعد رحيل أبيها النبيّ(صلى الله عليه وآله) بإخباره لها عن التضحيات العزيزة منها ومن زوجها(عليه السلام) ومن أبنائها(عليه السلام) لكن مع نهاية سعيدة يحقّق فيها ولدها المهدي(عج) حكومة الله تعالى التي توصل قافلة الوجود إلى كماله المنشود، لكن بداية هذه المسيرة بتضحية الزهراء(عليها السلام) من خلال موقف تاريخي ضمّته الأرض التي وطأتها بين بيتها والمسجد، واحتصنته جدرانه المباركة التي أرجفتها خطبتها العصماء فيه، وأصبح الحلقة في ذلك الباب الذي عبره سيفتح للأمة دار مجدها الإلهي في حكومة ولدها المهدي(عج) من هنا كانت فاطمة (عليها السلام) عنواناً لباب كمال الأمة، ولتحقيق هدف الأنبياء، ولذا ورد عن النبي(صلى الله عليه وآله): "فاطمة هي الصديقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الأولى[19]"، ولذا أصبحنا نسلّم عليها منشدين أنشودة الأنبياء والأولياء :
السلام عليكِ أيّتها الصدِّيقة الشهيدة[20].
[1] الحديد 19
[2] النساء 87.
[3] النساء 122
[4] الكليني،ج2، ص 104.
[5] الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ج2، ص 1573.
[6] المرجع السابق.
[7] الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ج2، ص 1578.
[8] الاسراء 80.
[9] بحار الانوار، ج 64، ص 205.
[10] سورة الحديد: الآية 19.
[11] سورة الحديد: الآية 7.
[12] سورة الحجرات: الآية15.
[13] سورة الفتح: الآية 13.
[14] سورة الأعراف: الآية 158.
[15] سورة النساء: الآية 136.
[16] سورة الصّف: الآية 10.
[17] بحار الأنوار، ج36، ص 340.
[18] المائدة 75.
[19] المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج43، ص105.
[20] الطوسي، محمد بن الحسن، مصباح المتهجّد، ص711.